زيارة بايدن- المصالح الأمريكية، أمن إسرائيل، واستقرار الشرق الأوسط المشروط

بعد طول انتظار وترقب، جاءت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط، لتُبدد الآمال المعلقة على تغيير جوهري في السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة تحت قيادة الإدارة الديمقراطية. فزيارة بايدن، التي جرت بين 13 و17 يوليو/تموز 2022، تشابهت إلى حد كبير مع زيارة سلفه دونالد ترامب في مايو/أيار 2017. اللافت للنظر أن المنطقة، التي تعاني من انقسامات حادة وتحديات جمة، استقبلت بايدن في قمة جدة بشكل موحد، على غرار استقبالها لترامب قبل سنوات.
في مقال نُشر في صحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ 9 يوليو/تموز، أوضح الرئيس بايدن أهداف زيارته، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- تعزيز المصالح الأميركية في المنطقة، في ظل تصاعد النفوذ الصيني الذي يثير قلق واشنطن، والتحركات الروسية التوسعية التي تهدد أوروبا والمصالح الأميركية فيها.
- تحقيق الاستقرار في المنطقة كهدف إقليمي ودولي، وهو ما يتطلب سياسة أميركية جديدة لا تعتمد على التدخل العسكري المكلف، كما يتضح من الانسحاب من العراق وأفغانستان. تتضمن هذه الإستراتيجية منع إيران من الحصول على السلاح النووي وكبح نفوذها في المنطقة، مع التشكيك في إمكانية تحقيق ذلك على أرض الواقع.
- بين الهدفين السابقين، يبرز هدف ثالث وهو تعزيز أمن إسرائيل ودمجها في المنطقة، وهو ما تسعى إليه الإدارة الأميركية كجزء من "صفقة القرن". فواشنطن ترى أن أمن المنطقة مرتبط بإسرائيل قوية ومنخرطة إقليميًا، من خلال مسار تدريجي يبدأ بالتطبيع الشامل وينتهي بالاندماج الكامل عبر تحالفات دفاعية واتفاقيات اقتصادية تدمج السوق الإسرائيلية في شبكة العلاقات الاقتصادية في المنطقة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والتجارة الحرة.
تعتمد إدارة بايدن، كما فعلت الإدارات السابقة، على أن الاستقرار في المنطقة هو أفضل وسيلة للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة وتعزيزها، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق شعوب المنطقة في التغيير.
في معرض حديثه عن الاستقرار، أشاد الرئيس بايدن بكونه أول رئيس أميركي يزور المنطقة منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، دون وجود قوات أميركية تشارك في حروب أو عمليات عسكرية. وأشار إلى الانسحاب من العراق وأفغانستان، مؤكدًا أن المنطقة أكثر استقرارًا الآن مما كانت عليه قبل 18 شهرًا، أي منذ توليه منصبه.
يرى بايدن أن الدبلوماسية المكثفة والردع قد ساهما في تحقيق الاستقرار، من خلال القضاء على تنظيم الدولة في العراق، وتثبيت الهدنة في اليمن، وتحييد قيادات التنظيم في سوريا، وتخفيف التوتر في الأراضي الفلسطينية المحتلة. والجدير بالذكر أن إدارة بايدن طلبت من تل أبيب وقف التصعيد وتجنب الاستفزازات في الأراضي المحتلة قبل شهر من زيارته للمنطقة.
تتبنى إدارة بايدن بشكل عام نفس النهج الذي اتبعته الإدارات السابقة، حيث تعتبر أن الاستقرار في المنطقة هو أفضل طريقة للحفاظ على المصالح الأميركية وتعزيزها. هذا الاستقرار مطلوب حتى لو كان على حساب المنطقة وحق شعوبها في التغيير.
إن عجز واشنطن عن التحكم في مسارات الربيع العربي قد عزز قناعتها بأن سياستها التقليدية هي الأنسب لفرض الاستقرار في المنطقة. ويتطلب هذا الاستقرار أنظمة حكم قوية وقادرة على فرض سلطتها، خاصة وأن الانتقال الديمقراطي له تكاليفه ومخاطره، في وقت تنشغل فيه واشنطن بمواجهة صعود الصين وكبح جماح روسيا.
كما أن التوجه الأميركي المعلن بالانسحاب من المنطقة لتركيز الجهود على مواجهة الخطر الصيني في المحيطين الهادي والهندي، يستلزم بقاء المنطقة مستقرة وخالية من أي اضطرابات تهدد المصالح والأمن القومي الأميركي.
لم يكن من المستغرب أن يحتفي ترامب وإدارته خلال زيارتهما للمنطقة في مايو/أيار 2017 بأكثر دول المنطقة تسلطًا -إسرائيل- دون أي اعتبار لقيم الديمقراطية. واليوم، تعيد إدارة بايدن الديمقراطية نفس المشهد الذي رأيناه قبل 5 أعوام، مما يعكس بشكل واضح ملامح السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة.
تؤمن الولايات المتحدة إيمانًا قاطعًا بأن الاستقرار في المنطقة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمن إسرائيل وتفوقها. ولذلك، تتعامل الإدارات الأميركية مع قضية الاستقرار ليس فقط كهدف، بل كسبب، بحيث تكون المعادلة أن المنطقة لن تكون مستقرة بدون أمن إسرائيل وتفوقها.
بينما تعزز واشنطن سياستها وتفاهماتها مع أنظمة المنطقة القوية، وخاصة الثرية منها، فإنها حريصة على ضمان قدرة هذه الأنظمة على تأمين تدفق النفط والسيطرة على أسعاره في الأسواق العالمية.
أصبح هذا الأمر أكثر إلحاحًا بعد اندلاع الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وما خلفته من تداعيات وخيمة على إمدادات الغاز والنفط، وارتفاع الأسعار الذي تسبب في التضخم في معظم دول العالم.
هذا التضخم طال الولايات المتحدة نفسها، وتسبب في انخفاض شعبية الرئيس بايدن إلى أقل من 40%، مما دفعه للإعلان بعد وصوله إلى المنطقة أن واشنطن لن تترك المنطقة للصين وروسيا.
اللافت أن زيارة الرئيس بايدن "الديمقراطي" إلى المنطقة حملت معها ملفات وقضايا عديدة، ولكنها تجاهلت قضية الديمقراطية التي تتوق إليها المنطقة. على العكس من ذلك، ركزت الزيارة على الأمن والتطبيع والمصالح والاستقرار، وتجاهلت الديمقراطية.
تدرك إدارة بايدن أن أحد شروط ترسيخ مسار التطبيع العربي الإسرائيلي هو وجود أنظمة حكم قوية وغير شعبية وغير ديمقراطية، تعتمد على القوة والتسلط بدلًا من تفويض الشارع. فقوى التغيير المعنية بالتحول الديمقراطي هي الأشد معارضة ورفضًا للتطبيع.
لذلك، تخشى واشنطن من وصول هذه القوى إلى السلطة أو حتى الاقتراب منها. الأمثلة في مصر والمغرب والسودان وتونس واضحة، مما يجعل واشنطن تنظر إلى الانقلابات في المنطقة بعين نصف مفتوحة، حيث تتحفظ عليها في البداية ثم تدعمها لاحقًا سرًا وعلانية.
على الرغم من أن الرؤية الأميركية تجاه المنطقة تبدو مرتبكة وغير مدركة لتعقيدات المشهد، إلا أنها تستند إلى محددات تقليدية عفا عليها الزمن، أساسها سلطة القوة. ومع ذلك، فإن مقاربة واشنطن تظل مركبة وذات أبعاد استراتيجية واضحة. فالولايات المتحدة مقتنعة تمامًا بأن الاستقرار في المنطقة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمن إسرائيل وتفوقها.
لذلك، تتعامل الإدارات الأميركية مع قضية الاستقرار ليس فقط كهدف، بل كسبب أيضًا، بحيث تكون المعادلة أن المنطقة لن تكون مستقرة بدون أمن إسرائيل وتفوقها، وفي الوقت نفسه، لن تكون إسرائيل آمنة إلا في ظل استقرار المنطقة. هذا التوجه الأميركي في تأمين إسرائيل يتم عبر مسارات متفاعلة:
- ضمان تفوقها العسكري (بموجب تشريع أميركي).
- ردع خصومها والتهديدات التي تتعرض لها (مثل البرنامج النووي الإيراني).
- ربطها بعلاقات مع دول المنطقة، تبدأ بالتطبيع وتصل إلى الاندماج عبر اتفاقيات أمنية وتجارية وتحالفات إقليمية. تدفع الولايات المتحدة أنظمة المنطقة إلى التطبيع بقوة، حتى يتحول إلى شرط ليس فقط لعلاقة قوية مع واشنطن، بل شرط للاستقرار. فما كان سابقًا شرطًا للشرعية، أصبح اليوم انتفاؤه هو الشرط. فالدول التي كانت تعتبر القضية الفلسطينية قضية مركزية يجب دعمها، انعطفت اليوم نحو التطبيع والتحالف مع إسرائيل. هذا المسار جعلته واشنطن ورأته أنظمة المنطقة مصدر الشرعية الأساسي والمنفذ الوحيد للانفتاح على العالم الخارجي.
على الرغم من مساعي الولايات المتحدة لتحفيز دول المنطقة على إقامة تحالف إقليمي يضم إسرائيل، فإن هذا المشروع يواجه عقبات حقيقية، تبدأ من غياب تسوية واضحة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتصل إلى عدم حماسة بعض دول المنطقة لهذا التحالف، وتنتهي بامتناع صريح من دول أخرى عن الانخراط في تحالف يضعها في مواجهة مباشرة مع إيران.
لذلك، تبدو الزيارة في هذا المستوى قد فشلت في إحداث أي اختراق جدي، وهو ما ظهر بوضوح من خلال كلمات بعض القادة العرب الذين لم يترددوا خلال "قمة جدة للأمن والتنمية" في التذكير بأهمية القضية الفلسطينية وحلها بشكل عادل كأساس وشرط يسبق كل المبادرات الأخرى، على غرار "شرق أوسط جديد" أو "ناتو شرق أوسطي".
إن الرهان الإسرائيلي على إدارة بايدن لتهميش القضية الفلسطينية وتجاوزها عبر عملية تطبيع مع الدول العربية، ثم دمج إسرائيل في المنطقة، ومن ثم التعامل مع الملف الفلسطيني كملف ثانوي شبيه بملفات الأقليات، قد فشل في الوقت الراهن. كما فشلت المحاولة الأميركية المرتبكة في انتزاع توجه من قمة جدة للانخراط في مشروع الدمج الإسرائيلي الكامل في المنطقة.
تعكس زيارة بايدن الأخيرة للمنطقة بشكل واضح السياسة الأميركية المتذبذبة والمضطربة تجاه الشرق الأوسط. هذه السياسة تتأرجح بين التمسك بالرؤية التقليدية التي تأسست قبل أكثر من 70 عامًا، وبين محاولة ابتكار مقاربة جديدة تستجيب للتوازنات الدولية المتغيرة والتحديات الاستراتيجية، مثل صعود الصين وتوسع روسيا، والتحولات العميقة في منطقة الشرق الأوسط. هذا الارتباك تجلى بوضوح في الانسحاب الأميركي المتسارع من العراق وأفغانستان، بينما يعلن بايدن أن الولايات المتحدة لن تترك المنطقة للصين وروسيا.
تبقى إشارة واجبة، تضمنها خطاب بايدن وهو يتعهد بالتصدي للصين وروسيا في المنطقة، إنما يؤكد أن هذا الشرق الدامي، وبعد حوالي 70 عامًا على استقلاله، يُنظر إليه كمنطقة صراع على النفوذ والمصالح، ولا شيء أكثر من ذلك!